كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثانيها: أنهم قاسوا الإقرار على الشهادة فكما أنه لا يقبل في الزنا إلا أربع شهادات فكذا في الإقرار به والجامع السعي في كتمان هذه الفاحشة.
وثالثها: أن الزنا لا ينتفي إلا بأربع شهادات أو بأربع أيمان في اللعان فجاز أيضًا أن لا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات، وبه يفارق سائر الحقوق فإنها تنتفي بيمين واحد، فجاز أيضًا أن يثبت بإقرار واحد والجواب: عن الأول أنه ليس في الحديث إلا أنه عليه السلام حكم بالشهادات الأربع وذلك لا ينافي جواز الحكم بالشهادة الواحدة وعن الثاني: أن الفرق بينهما أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة لسقط الحد عن القاذف، ولولا أن الزنا ثبت لما سقط كما لو شهد اثنان بالزنا لا يسقط الحد عن القاذف حيث لم يثبت به الزنا والله أعلم.
والطريق الثالث: الشهادة وقد أجمعوا على أنه لابد من أربع شهادات، ويدل عليه قوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ} [النساء: 15] والكلام فيه سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 4].
البحث الخامس: في أن المخاطب بقوله تعالى: {فاجلدوا} من هو؟ أجمعت الأمة على أن المخاطب بذلك هو الإمام، ثم احتجوا بهذا على وجوب نصب الإمام، قالوا لأنه سبحانه أمر بإقامة الحد، وأجمعوا على أنه لا يتولى إقامته إلا الإمام وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب فكان نصب الإمام واجبًا، وقد مر بيان هذه الدلالة في قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بقي هاهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على مملوكه.
وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا يملك، وقال مالك يحده المولى من الزنا وشرب الخمر والقذف ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث، واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» وفي رواية أخرى «فليجلدها الحد» قال أبو بكر الرازي لا دلالة في هذه الأخبار، لأن قوله: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» هو كقوله: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} ومعلوم أن المراد منه رفعه إلى الإمام لإقامة الحد والمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة، وسائر الناس مخاطبون برفع الأمر إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» على هذا المعنى، وأما قوله: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» فإنه ليس كل جلد حدًا، لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير، فإذا عزرنا فقد وفينا بمقتضى الحديث.
والجواب: أن قوله: «أقيموا الحدود» أمر بإقامة الحد فحمل هذا اللفظ على رفع الواقعة إلى الإمام عدول عن الظاهر، أقصى ما في الباب أنه ترك الظاهر في قوله فاجلدوا، لكن لا يلزم من ترك الظاهر هناك تركه ههنا، أما قوله: «فليجلدها» المراد هو التعزير فباطل لأن الجلد المذكور عقيب الزنا لا يفهم منه إلا الحد وثانيها: أن السلطان لما ملك إقامة الحد عليه فسيده به أولى لأن تعلق السيد بالعبد أقوى من تعلق السلطان به، لأن الملك أقوى من عقد البيعة، وولاية السادة على العبيد فوق ولاية السلطان على الرعية، حتى إذا كان للأمة سيد وأب فإن ولاية النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الأب مقدم على السلطان في ولاية النكاح فيكون السيد مقدمًا على السلطان بدرجات فكان أولى، ولأن السيد يملك من التصرفات في هذا المحل ما لا يملكه الإمام فثبت أن المولى أولى وثالثها: أجمعنا على أن السيد يملك التعزير فكذا الحد، لأن كل واحد نظير الآخر وإن كان أحدهما مقدرًا والآخر غير مقدر، واحتج أبو بكر الرازي على مذهب أبي حنيفة بوجوه: أحدها: قال قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس، فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة، ولم يفرق في هذه الآية بين المحدودين من الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي وثانيها: أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود، لأن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة، لأنه لو لم يكن يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئًا فكان يصير حاكمًا لنفسه بإيجاب الضمان عليهم وذلك باطل لأنه ليس لأحد من الناس أن يحكم لنفسه.
فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وثالثها: أن المالك ربما لا يستوفي الحد بكماله لشفقته على ملكه، وإذا كان متهمًا وجب أن لا يفوض إليه والجواب: عن الأول أن قوله: {فاجلدوا} ليس بصريحه خطابًا مع الإمام، لكن بواسطة أنه لما انعقد الإجماع على أن غير الإمام لا يتولاه حملنا ذلك الخطاب على الإمام، وهاهنا لم ينعقد الإجماع على أن الإمام لا يتولاه لأنه عين النزاع والجواب: عن الثاني قال محيي السنة في كتاب التهذيب هل يجوز للمولى قطع يد عبده بسبب السرقة أو قطع الطريق؟ فيه وجهان أصحهما أنه يجوز، نص عليه في رواية البويطي لما روي عن ابن عمر أنه قطع عبدًا له سرق وكما يجلده في الزنا وشرب الخمر والثاني: لا بل القطع إلى الإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير ولا يملك جنس القطع، ثم قال وكل حد يقيمه المولى على عبده إنما يقيمه إذا ثبت باعتراف العبد، فإن كانت عليه بينة فهل يسمع المولى الشهادة، فيه وجهان:
أحدهما: يسمع لأنه ملك الإقامة بالاعتراف فيملك بالبينة كالإمام والثاني: لا يسمع بل ذاك إلى الحكام والجواب: عن الثالث أنه منقوض بالتعزير.
المسألة الثانية:
إذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود، بل الأولى أن يعينوا واحدًا من الصالحين ليقوم به.
المسألة الثالثة:
الخارجي المتغلب هل له إقامة الحدود؟ قال بعضهم له ذلك وقال آخرون: ليس له ذلك، لأن إقامة الحد من جهة من لم يلزمنا أن نزيل ولايته أبعد من أن نفوض ذلك إلى رجل من الصالحين.
البحث السادس: في كيفية إقامة الحد، أما الجلد، فاعلم أن المذكور في الآية هو الجلد، وهذا مشترك بين الجلد الشديد، والجلد الخفيف، والجلد على كل الأعضاء أو على بعض الأعضاء، فحينئذ لا يكون في الآية إشعار بشيء من هذه القيود، بل مقتضى الآية أن يكون الآتي بالجلد كيف كان خارجًا عن العهدة، لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج من العهدة، قال صاحب الكشاف وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم، ولأن الجلد ضرب الجلد، يقال جلده كقولك ظهره بفتح الهاء وبطنه ورأسه، إلا أنا لما عرفنا أن المقصود منه الزجر والزجر لا يحصل إلا بالجلد الخفيف لا جرم تكلم العلماء في صفة الجلد على سبيل القياس ثم هنا مسائل:
المسألة الأولى:
المحصن يجلد مع ثيابه ولا يجرد، ولكن ينبغي أن يكون بحيث يصل الألم إليه، وينزع من ثيابه الحشو والفرو.
روي أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه، وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص، فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه.
أما المرأة فلا خلاف في أنه لا يجوز تجريدها، بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف، ويلي ذلك منها امرأة.
المسألة الثانية:
لا يمد ولا يربط بل يترك حتى يتقي بيديه، ويضرب الرجل قائمًا والمرأة جالسة.
قال أبو يوسف رحمه الله: ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة.
المسألة الثالثة:
يضرب بسوط وسط لا جديد يجرح ولا خلق لم يؤلم، ويضرب ضربًا بين ضربين لا شديد ولا واه.
روى أبو عثمان النهدي قال أتى عمر برجل في حد ثم جيء بسوط فيه شدة، فقال أريد ألين من هذا، فأتى بسوط فيه لين، فقال أريد أشد من هذا، فأتى بسوط بين السوطين فرضي به.
المسألة الرابعة:
تفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج، ويضرب على الرأس عند الشافعي رحمه الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يضرب على الرأس، وهو قول علي حجة الشافعي رحمه الله.
قال أبو بكر أضرب على الرأس فإن الشيطان فيه.
وعن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات على وجه التعنت، حجة أبي حنيفة رحمه الله، أجمعنا على أنه لا يضرب على الوجه فكذا الرأس والجامع الحكم والمعنى.
أما الحكم فلأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه، بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد، وفارقا سائر البدن، لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة في الرأس والوجه، فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب.
وأما المعنى فهو إنما منع من ضرب الوجه لما كان فيه من الجناية على البصر، وذلك موجود في الرأس، لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر، وربما حدث منه الماء في العين، وربما حدث منه اختلاط العقل.
أجاب أصحابنا عنه بأن الفرق بين الوجه والرأس ثابت، لأن الضربة إذا وقعت على الوجه، فعظم الجبهة رقيق فربما انكسر بخلاف عظم القفا، فإنه في نهاية الصلابة، وأيضًا فالعين في نهاية اللطافة، فالضرب عليها يورث العمى، وأيضًا فالضرب على الوجه يكسر الأنف لأنه من غضروف لطيف، ويكسر الأسنان لأنها عظام لطيفة، ويقع على الخدين وهما لحمان قريبان من الدماغ، والضربة عليهما في نهاية الخطر لسرعة وصول ذلك الأثر إلى جرم الدماغ، وكل ذلك لم يوجد في الضرب على الرأس.
المسألة الخامسة:
لو فرق سياط الحد تفريقًا لا يحصل به التنكيل، مثل أن يضرب كل يوم سوطًا أو سوطين لا يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين أو أكثر يحسب، والأولى أن لا يفرق.
المسألة السادسة:
إن وجب الحد على الحبلى لا يقام حتى تضع، روى عمران بن الحصين: أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت يا نبي الله أصبت حدًا فأقمه علي، فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها، فإذا وضعت فاتني بها ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، ولأن المقصود التأديب دون الإتلاف.
المسألة السابعة:
إن وجب الجلد على المريض نظر، فإن كان به مرض يرجى زواله من صداع أو ضعف أو ولادة يؤخر حتى يبرأ، كما لو أقيم عليه حد أو قطع لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول، وإن كان به مرض لا يرجى زواله، كالسل والزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط فإنه يموت وليس المقصود موته، وذلك لا يختلف سواء كان زناه في حال الصحة ثم مرض أو في حال المرض، بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ فيقول ذلك مقام مائة جلدة.
كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] وعند أبي حنيفة رحمه الله: يضرب بالسياط، دليلنا ما روي أن رجلًا مقعدًا أصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة، ولأن الصلاة إذا كانت تختلف باختلاف حاله فالحد أولى بذلك.